تعليم

ما هي السنة

تعريف السنة وانواعها

السُنّة لغةً

المُراد بالسُّنَّة لغةً: المَنهَجُ والطّريقة والسبيل، ويتساوى في ذلك الطّريقة المحمودة والمذمومة، وسُنَّةُ الله: أحكامُه وأَمْرهُ ونَهْيُه، وسَنَّها اللهُ للناس أي بَيَّنَها وفصَّلها، والسُّنَّةُ: أي السِّيرةُ حَسَنَةً كانتْ أم قبيحةً، أمّا قوله سبحانه: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأوّلين)فقد قال الزجَّاجُ: (المقصود بقوله سبحانه : (سُنَّةُ الأَوَّلِينَ) أنهم شاهدوا العَذابَ وعاينوه فَطَلَبَ المشركونَ العذاب بأن قالوا (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء))، وسَنَنْتُها سَنّاً واسْتَنَنْتُها سِرْتُها، والسُّنةُ الطَّبيعَةُ، ويقصد بقولهم: امْضِ على سُنَّتِكَ: أي وجْهِك وقصْدِك، وسَنَنُ الطَّريقِ وسُنَنُهُ وسُنُنُه نَهْجُه الذي يسير عليه، ويُقال: ترك فلانٌ لك سَنَنَ الطَّريقِ وسُنَنَهُ وسِنَنَه أي جِهَتَهُ، والمُسْتَسِنُّ الطريقُ المَسْلوكُ، وتَسَنَّنَ الرَّجُلُ في عَدْوِه واسْتَنَّ مضَى على وَجْهِه معينة دون سواها.

السنة اصطلاحاً

تُعرف السُنّة في اصطلاح علماء الحديث بأنّها (كلّ ما فعلَهُ النبيُّ -عليه الصّلاة والسّلام- ولم يدلّ على وجوبهِ دليل).

أمّا المُحدَثون فعرّفوا السنّة بأنّها (كلّ ما نُقِل عن رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- من أقوال وأفعال وتقرير، وصفات خَلْقية وخُلُقية، سواءً أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها).

أما الفُقهاء فعرّفوا السُّنة تعريفاً مُختلفاً عن تعريف أهل الحديث؛ حيث نظروا إلى السُنّة بنظرةٍ خاصّةٍ من ناحية الأجر والثواب أو التوبيخ والعقاب، فعرّفوا السُّنة بأنّها ما طُلِب من المُكلَّف فِعلُه طلباً غير جازم، أي ما كان مطلوباً من المُسلمين أن يفعلوه لكن دون إلزامٍ لهم على فعله، وقيل أيضاً بأنها ما يُثاب فاعله ولا يُعاقب تاركه. وفي نفس المعنى: ما كان في فعله ثواب لمن فعله، وليس في تركه عقاب على من تركه.

أقسام السنة النبوية

تنقسم السُنّة النبويّة بحسب ورودها وبحسب طريقة إثباتها من النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- إلى عدّة أقسام، هي: السُنّة القوليّة، والسُنّة الفعليّة، والسُنّة التقريريّة، وتختلف درجة الاحتجاج بالسُنّة بحسب قوّة ذلك القسم ودرجته، وبيان أقسام السنّة بناءً ما تم ذكره فيما يأتي:

  • السنة القوليّة: وهي كلّ ما نُقل عن النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- من أقوال، ومثال ذلك قوله عليه الصّلاة والسّلام: (إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِكم منِّي مجلِسًا يومَ القيامةِ أحاسِنُكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ، وأبعدَكم منِّي مجلِسًا يومَ القيامةِ الثَّرْثارون والمُتشَدِّقون والمُتفَيْهِقون. قالوا: يا رسولَ اللهِ قد علِمنا الثَّرثارين والمُتشَدِّقين فما المُتفَيْهِقون؟ قال: المُتكبِّرون). وتعتبرالسُنّة القوليّة أعلى درجات السُنن من حيث الاحتجاج بها؛ لثبوتها ووضوحها وقوّة العبارة.
  • السنة الفعليّة: وهي كلّ ما وَرد عن النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- من أفعال تُشير إلى أحكامٍ شرعيّة، ومن الأمثلة على ذلك ما رواه أبو قتادة الأنصاريّ -رضي الله عنه- قال: (كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا كان في سفرٍ، فعرَّسَ بليلٍ، اضطجعَ على يمينِه، وإذا عرَّسَ قبيلَ الصبحِ، نصبَ ذراعَه، ووضع رأسَه على كفَّهِ)، والسُنّة الفعليّة تأتي في المرتبة الثانية بعد السُنّة القوليّة، وهي أقوى في الاستدلال من السُنّة التقريريّة.
  • السُنّة التقريريّة: وهي أن يرى النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- من أحد الصّحابة أو من جماعةٍ منهم فِعلاً يتعلّق به حكمٌ شرعيّ، فيقرّهم على فعله وذلك بأن يسكت ولا ينكر عليهم فعلهم، أو يسمع قولاً من أحدهم ممّا يكون للأحكام الشرعيّة تأثير فيه فيقرّه عليه. تُعتَبر السُنّة التقريريّة حُجّةً، لكنها ليست بمنزلة السُنّة القوليّة والسُنّة الفعليّة، ومن الأمثلة على السُنّة التقريريّة ما رواه عكرمة بن خالد رضي الله عنه حيث قال: (إنَّ عِكرمةَ بنَ أبي جهلٍ فرَّ يومَ الفتحِ فكتبتْ إليه امرأتُه فردَّته فأسلمَ وكانت قد أسلمَت قبل ذلك فأقرَّهما النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على نكاحِهما).

وقد قال الإمام السبكيّ: (يُعتبر التّقرير فعلاً، إلاّ أنّه مرجوح بالنسبة إلى الفعل المُستقل؛ فالمراتب ثلاث: قولٌ، ثم فعلٌ غير تقرير، ثم تقرير، وإنّما لم يذكر الأصوليون التّقرير في مسألة تُعارض الأقوال والأفعال لدخوله في الفعل، والفعل أرجح من التّقرير)

أنواع السنة النبوية

السنه النبويه صدرت عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهي سنه فعلية وسنة قولية و سنة تقريرية.

  •  السنة الفعلية وهي : ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفعال وما يعرفه تجاه المواقف التي يمر بها، والمسلم يتقيد بما  يراه عن الرسول محمد _صلى الله عليه وسلم_  وما يسمع عنه من الرواة والصادقين.
  • السنة القولية وهي : ما ورد على لسان النبي محمد صلى الله عليه وسلم بنص الأحداث النبوية الشريفة المروية عنه.
  • السنه التقريريه وهي :  انه اذا راى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الصحابه او سمع عن قيامهم بشيء ولم يعترض عليه او يبدي رايه فيه ولكن لم يذكرها ولم يبين مساوئها يعتبر من الاشياء المشروعه في الاسلام وان حكمها مباح وجائز يمكن تركها او عملها وهذا ما يسمى بالسنه تقريريه.

أهمية السنة النبوية الشريفة

أهمية السنة ومنزلتها:

السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي بإجماع علماء الأمة سلفًا وخلفًا، فهي مكملة للقرآن، ومفصّلة لما يحتاج إلى تفصيل، وموضحة لما يحتاج إلى إيضاح، فهي والقرآن مصدران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر، ولا يتم كمال التشريع إلا بهما. ويمكن أن نذكر – باختصار – بعض جوانب أهمية هذا المصدر العظيم:

1-  إن السنة النبوية هي التفسير العلمي للقرآن الكريم، والتطبيق الواقعي له، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  يقيم حياته على ما ينزل عليه من الله تعالى، فيراه الصحابة رضي الله عنهم  فيمتثلون أمره ويقتدون به، وإذا ما احتاجوا إلى بيان شيء بينه لهم. فحياة الرسول صلى الله عليه وسلم  في جميع جوانبها تطبيق لما جاء في القرآن الكريم.

2-  إن السنة النبوية هي التي يتم فيها فهم القرآن الكريم واستيعابه على ما أراد الله تعالى، فهي تفسير مبهمه، وتفصّل مجمله، وتقيّد مطلقه، وتخصّص عامه، وتوضّح أحكامه، وتشرح غامضه، وتكمّل ما يحتاج إلى تكميل، وهذه أمور واضحة لا تحتاج إلى بيان، فالصلاة – مثلًا – لم ترد إلا مجملة في القرآن الكريم والسنة بينت أوقاتها، وأعدادها، وعدد ركعاتها، وفرائضها، ونفلها، وأركانها، وواجباتها… إلخ.

3-  إن دراسة السنة النبوية المشرفة وفهمها وتطبيقها من طاعة الله تعالى التي تضافرت النصوص القرآنية على ببيانها، فدراسة السنة طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم  من طاعة الله تعالى، قال سبحانه: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80].

4-  ومن أهمية السنة أن هناك أحكامًا لم يُنص عليها في القرآن الكريم، فجاءت السنة النبوية ببيانها، إذ إن السنة تحكي وقائع الناس وما يحدث منهم، فيبين الرسول صلى الله عليه وسلم  حكم ما وقع وما حدث مثل بيانه لكثير من الأحكام، كأحكام لحوم الحمر الأهلية، وأكل كل ذي ناب من السباع، وبعض أحكام النكاح، وغيرها.

السنة التقريرية ويكيبيديا

السنة كما عرفها العلماء، وبخاصة علماء الأصول: هي: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وأضاف إليها علماء الحديث: أو وصف أو سيرة. ليدخل فيها الصفات الخلفية والخلقية، وأحداث السيرة من الميلاد إلى الوفاة، وان لم تشتمل على سنة تتبع.

والسنة القوليه معروفة، وأمثلتها كثيرة، وعليها مدار كتب الحديث، أمثال:”إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى””أن الحلال بين وان الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات””من أحدث في امرنا ما ليس منه فهو رد”الخ  وجمهور السنة هي القولين، وعليها المعول في بيان القرآن، واستنباط الأحكام.

والسنة الفعلية أو العملية: تشمل فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات، كما قال:”صلوا كما رأيتموني أصلي”وقال في حجة الوداع:”خذ عني مناسككم”ومثل إنه كان يقبل نساءه وهو صائم، وكذلك في العبادات والمعاملات.

والسنة التقريرية: هي ما فُعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فأقره، أو علم به فسكت عليه؛ لأنه لا يسكت على باطل، ولا يقر إلا حقا؛ ولذا قال جابر:”كنا نعزل والقرآن ينزل”وفي رواية: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينهما”.

ومثال أكل الضب على مائدة النبي عليه الصلاة والسلام، اجتمعت فيه السنة التقريرية والسنة القولية، فقد ورد أنه أكل على مائدته وامتنع هو من أكله، فسئل: أحرام هو يا رسول الله؟ قال:”لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجد نفسي “فالتمثيل به للسنة التقريرية ليس مسلما.

وأما التمثيل بالمضاربة فهو صحيح، وفي موضوعه. وقد ذكر بعض الكاتبين أن المضاربة لم تثبت بقرآن ولا سنة، وغفل هذا الكاتب بأنها تثبت بالسنة التقريرية، وهي النوع الثالث من أنواع السنن. ولابن القيم كلام جيد ذكره في (إعلام الموقعين) عن السنة التقريرية ضرب فيه أمثلة وفيرة لها، على نهج ابن القيم في البيان والإسهاب، يحسن بنا أن نذكره هنا على طوله، ليستبين القارئ أهمية هذه السنة وكثرتها في التشريع، وأنها ليست قليلة ولا نادرة، كما توهم.

من ذلك إقراره لهم على تلقيح النخل، وعلى تجاراتهم التي كانوا يتجرونها، وهي على ثلاثة أنواع: تجارة الضرب في الأرض، وتجارة الإدارة، وتجارة السلم، فلم ينكر عليهم منها تجارة واحدة، وإنما حرم عليهم فيها الربا الصريح ووسائلة المغضية إليه أو التوسل بتلك المتاجر إلى الحرام كبيع السلاح لمن يقاتل به المسلم وبيع العصير لمن يعصره خمرا وبيع الحرير لمن يلبسه من الرجال ونحو ذلك مما هو معاونة على الإثم والعدوان.

وكإقرارهم على صنائعهم المختلفة من تجارة وخياطة وصياغة وفلاحة، وإنما حرم عليهم فيها الغش والتوسل بها إلى المحرمات، وكإقرارهم على إنشاد الأشعار المباحة وذكر أيام الجاهلية والمسابقة على الأقدام، وكإقرارهم علي المهادنة في السفر، وكإقرارهم على الخيلاء في الحرب ولبس الحرير فيه وإعلام الشجاع منهم بعينه بعلامة من ريشة أو غيرها.

وكإقرارهم على لبس ما نسجه الكفار من الثياب، وعلى إنفاق ما ضربوه من الدراهم، وربما كان عليها صور ملوكهم، ولم يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه مدة حياتهم دينارًا ولا درهما، وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار. وكإقراره لهم بحضرته على المزاح المباح، وعلى الشبع في الأكل، وعلى النوم في المسجد، وعلى شركة الأبدان، وهذا كثير من أنواع السنن احتج به الصحابة وأئمة الإسلام كلهم.

وقد احتج به جابر في تقرير الرب في زمن الوحي كقوله:”كنا نعزل والقرآن ينزل، فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن”وهذا من كمال فقه الصحابة وعلمهم، واستيلائهم على معرفة طرق الأحكام ومداركها، وهو يدل على أمرين؛ أحدهما: أن أصل الأفعال الإباحية، ولا يحرم منها إلا ما حرمه الله على لسان رسوله، الثاني: أن علم الرب تعالى بما يفعلون في زمن شرع الشرائع ونزول الوحي وإقراره لهم عليه على عفوه عنه، والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أنه في الوجه الأول يكون معفوا عنه استصحابا، وفي الثاني يكون العفو عنه تقريرا لحكم الاستصحاب..

ومن هذا النوع تقريره لهم على أكل الزروع التي تداس بالبقر، من غير أمر لهم بغسلها، وقد علم صلى الله عيه وسلم أنها لا بد أن تبول وقت الدياس، ومن ذلك تقريره لهم على الوقود في بيوتهم وعلى أطعمتهم بارواث الإبل وأخثاء البقر وابعار الغنم، وقد علم أن دخانها ورمادها يصيب ثيابهم وأوانيهم، ولم يأمرهم باجتناب ذلك، وهو دليل على أحد أمرين ولا بد: طهارة ذلك، او أن دخان النجاسة ورمادها ليس بنجس.

ومن ذلك تقريرهم على سجود أحدهم على ثوبه إذا اشتد الحر، ولا يقال في ذلك إنه ربما لم يعلمه؛ لأن الله قد علمه وأقرهم عليه ولم يأمر رسوله بإنكاره عليهم، فتأمل هذا الموضع. ومن ذلك تقريرهم على النكحة التي عقدوها في حال الشرك ولم يتعرض لكيفية وقوعها، وغنما أنكر منها ما لا مساغ له في الإسلام حين الدخول فيه.

ومن ذلك تقريرهم على ما بأيديهم من الأموال التي اكتسبوها قبل الإسلام بربًا أو غيره، ولم يأمر بردها بل جعل لهم بالتوبة ما سلف من ذلك؛ ومنه تقرير الحبشة باللعب في المسجد بالحراب، وتقريره عائشة على النظر إليهم، وهو كتقريره النساء على الخروج والمشي في الطرقات وحضور المساجد وسماع الخطب التي كان ينادى بالاجتماع لها، وتقريره الرجال على استخدامهن في الطحن والغسل والطبخ والعجن وعلف الفرس والقيام بمصالح البيت، ولم يقل للرجال قط: لا يحل لكم ذلك إلا بمعاوضتهن أو استرضائهن حتى يتركن الأجرة..

وتقريره لهم على الإنفاق عليهم بالمعروف من غير تقدير فرض ولا حب ولا خبز، ولم يقل لهم: لا تبرأ ذممكم من الإنفاق الواجب إلا بمعاوضة الزوجات من ذلك على الحب الواجب لهن مع فساد المعاوضة من وجوه عديدة أو بإسقاط الزوجات حقهن من الجب، بل أقرهم على ما كانوا يعتادون نفقته قبل الإسلام وبعده، وقرر وجوبه بالمعروف، وجعله نظير نفقة الرقيق في ذلك ومنه تقريرهم على التطوع بين أذان النغرب والصلاة وهو يراهم ولا ينهاهم.

ومنه تقريرهم على بقاء الوضوء وقد خفقت رؤوسهم من النوم في انتظار الصلاة ولم يأمرهم بإعادته، وتطرق احتمال كونه لم يعلم ذلك مردود بعلم الله به، وبأن القوم اجل وأعرف بالله ورسوله أن لا يخبروه بذلك، وبأن خفاء مثل ذلك على رسول الله صلى الله عيه وسلم وهو يراهم ويشاهدهم خارجًا إلى الصلاة ممتنع. ومنه تقريرهم على جلوسهم في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا.

ومنه تقريرهم على مبايعة عميانهم على مبايعتهم وشرائهم بأنفسهم من غير نهى لهم عن ذلك يوما ما، وهو يعلم أن حاجة الأعمى إلى ذلك كحاجة البصير. ومنه تقريرهم على قبول الهدية التي يخبرهم بها الصبي والعبد والأمة، وتقريرهم على الدخول بالمرأة التي يخبرهم بها النساء أنها امرأته، بل الاكتفاء بمجرد الإهداء من غير إخبار. ومنه تقريرهم على قول الشعر وإن تغزل أحدهم فيه بمحبوبته وإن قال فيه ما لو أقربه في غيره لأخذ به كتغزل كعب بن زهير بسعاد، وتغزل حسان في شعره وقوله فيه:

كأن خبيئة من بيت رأس … يكون مزاجها عسل وماء

ثم ذكر وصف الشراب، إلى أن قال:

ونشربها فتتركنا ملوكا … وأسدا لا ينهنهنا اللقاء

فأقرهم على قول ذلك وسماعه؛ لعلمه ببر قلوبهم ونزاهتهم وبعدهم عن كل دنس وعيب، وأن هذا إذا وقع مقدمة بين يدي ما يحبه الله ورسوله من مدح الإسلام وأهله وذم الشرك وأهله والتحريض على الجهاد والكرم والشجاعة فمفسدته مغمورة جدا في جنب هذه المصلحة، مع ما فيه من مصلحة هز النفوس واستمالة إصغائها وإقبالها على المقصود بعده، وعلى هذا جرت عادة الشعراء بالتغزل بين يدي الأغراض التي يريدونها بالقصيد. ومنه تقريرهم على رفع الصوت بالذكر بعد السلام، بحيث كان من هو خارج المسجد يعرف انقضاء الصلاة بذلك، ولا ينكره عليهم. *

بحث عن السنة النبوية

السنّة النبويّة

لقد بعث الله تعالى الإسلام وبيّنه عن طريق القرآن الكريم الذي يعدّ الكتاب الأسمى والذي نستقي منه تعاليم الدين، فبين الله تعالى فيه أحكام الإسلام والخطوط العريضة لهذا الدين، ولكن القرآن يحتاج لما يفصّله ويبين ما فيه بالتفصيل، ولهذا فإنّ المرجع الثاني من مراجع الإسلام هي السنة النبوية الشريفة والتي نتعرف عليها من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فأمّا السنة النبوية فهي ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل، أو تقرير، أو صفة، والتي نقلها لنا الصحابة الكرام ومن بعدهم بالتواتر حتى وصلت إلينا على ما هي.

القرآن والسنة

أمّا من آمن بالقرآن الكريم فإنّ عليه أن يؤمن بالسنة النبوية الشريفة، فالقرآن الكريم في بداية الأمر نقل لنا عن طريقه صلى الله عليه وسلم كما السنة النبوية الشريفة، فكما قال تعالى في القرآن الكريم:” وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى”، فما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في النسة النبوية هو إيحاءٌ من الله تعالى إليه ولكن لفظه من عند رسول الله أو على لسان الصحابة عند وصفهم لصفاته وأفعاله، وهي تختلف عن القرآن الكريم بأنّها غير معجزةٍ كالقرآن الكريم من الناحية اللغوية على الأقلّ وأنّ قراءتها لا تعتبر عبادةً كالقرآن الكريم، وأمّا من ناحية الإعجازات الأخرى فنجد في السنة النبوية العديد من الإعجازات المختلفة التي توسع فيها العلماء.

نشأة علم الحيث

بعكس القرآن الكريم أيضاً فإنّ السنة النبوية غير محفوظةٍ من التحريف والكذب، ولذلك نجد البعض قد حرّف في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بقصدٍ أو من دون قصد، ولهذا فقد اجتهد العلماء في البحث في السنة النبوية وتصنيف الأحاديث الشريفة تبعاً لعددٍ من الشروط المختلفة، وهو ما أدّى إلى ظهور العلوم المختلفة لتحقيق هذا الغرض والتي تندرج جميعها تحت علم الحديث كعلم الجرح والتعديل والذي يبحث في أحوال الرواة ومدى استقامتهم، وبناءً عليه يؤخذ بأحاديثهم أو تضعفّ أو ترد، وهو علمٌ له أسسّه وشروطه والتي تجعل منه دقيقاً جداً.

فيقوم علماء الحديث في العادة بالنظر إلى سند الحديث بحيث يكون متصلاً أم لا بأن يكون متواتراً من راوٍ إلى الراوي الذي يليه، ومن ثمّ يتم البحث في الرواة واحداً واحداً والتأكّد من صدقهم، وهو ما يقوم به علم الجرح والتعديل، ومن ثمّ يتم رفع التناقض في حال وجوده بين حديثين صحيحين عن طريق النظر إن كان هذا التناقض بسبب النسخ أو غيره، والنسخ هو رقع الحم الشرعي السابق وإبداله بجديد زمن نزول الوحي من عند الله تعالى فقط، وهو ما كان يحدث في أثناء نزول الدعوة وبدايتها كحكم الخمر والذي تغير على عدة مراحل حتى تحريم الخمر، فتمّ تصنيف الأحاديث وفقاً لذلك إلى عددٍ من التصنيفات بناءً لقوّتها كالصحيح، والحسن، والضعيف، والموضوع.

لقد ظهر عبر التاريخ العديد من العلماء الذين قاموا بتصحيح الأحاديث المختلفة، فتمّ تقسيم الكتب التي وضعت للأحاديث إلى عدة أقسام ككتب الصحاح، والسنن، والمسانيد، والمعاجم وغيرها، وأمّا أشهر الكتب في الحديث فهي الكتب الستة والتي تعدّ أصحّ الكتب التي وردت في الأحاديث والتي على رأسها صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ومن ثمّ سنن النسائي، والترمذي، وأبي داوود، وابن ماجه رحمهم الله جميعاً.

حجية السنة التقريرية

الأصل في أقوال النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأفعاله وتقريراته أنها حجة شرعية على عباد الله ، إن ثبتت بطريق صحيح. وقد تكفل ببيان ذلك والاستدلال له علم أصول الفقه. وهذا واضح كل الوضوح فيما كان من ذلك مبينا لأمور الدين، كالإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، وكالأحاديث المبينة لأحكام الله تعالى من الحلال والحرام والفرائض وأنواع التعبدات والمعاملات وغيرها من أمور الشريعة.

أما الأمور الدنيوية، فهل يلزم أن تكون اعتماداته وأقواله: ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها مطابقة للواقع بمقتضى نبوته ، أو أن هذا أمر لا صلة له بمنصب النبوة؟
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين : المذهب الأول: أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم من خطأ الاعتقاد في أمور الدنيا، بل كل ما يعتقده في ذلك فهو مطابق للواقع، وكذلك ما يقوله ويخبر به. ولم نجد أحدا من قدماء الأصوليين صرح بمثل هذا المذهب. ولكنه لازم لمن جعل جميع أقواله وأفعاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجة حتى في الطيبات والزراعة ونحوها.
وهو لازم أيضا لمن صحح منهم أن تقريره ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمخبر عن أمر دنيوي يدل على صحة ذلك الخبر، كما فعل السبكي وأيده المحلي والبناني. وابن القيم في كتابه (الطب النبوي) يذهب إلى حجية أقواله وأفعاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الطب. وقال : طب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ متيقن قطعي إلهي ، صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل.

ويظهر أن هذه طريقة المحدثين. فإنا نجد عند البخاري مثلا هذه الأبواب (باب السعوط) (باب أي ساعة يحتجم) (باب الحجامة في السفر) (باب الحجامة على الرأس) (باب الحجامة من الشقيقة والصداع) وعند غيره من المحدثين ، كأصحاب السنن، تبويبات مشابهة. ويوافقهم الشراح غالبا على ذلك ، فيذكرون استحباب أدوية معينة لأمراض معينة، بناء على ما ورد في ذلك أن الأحاديث النبوية.

المذهب الثاني: أنه لا يجب أن يكون اعتقاده ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمور الدنيا مطابقا للواقع، بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلا أو كثيرا ، بل قد يصيب غيره حيث يخطيء هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قالوا: وليس في ذلك حط من منصبه العظيم الذي أكرمه الله به ، لأن منصب النبوة مُنصب على العلم بالأمور الدينية ، من الاعتقاد في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الأمور الشرعية. أما إن اعتقد أن فلانا مظلوم فإذا هو ظالم، أو أن دواء معينا يشفي من مرض معين، فإذا هو لا يشفى منه ، أو أن تدبيرا زراعيا أو تجاريا أو صناعيا يؤدي إلى هدف معين، فإذا هو لا يؤدي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أو أن تدبيرا عسكريا أو إداريا سينتج مصلحة معينة ، أو يدفع ضررا معينا ، فإذا هو لا يفعل ، فإن ذلك الاعتقاد لا دخل له بالنبوة ، بل هو يعتقده من حيث هو إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثراته بما سبق من الحوادث، وما سمع أو رأى من غيره، مما أدى إلى نتائج معينة.

فكل ذلك يؤدي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر، ثم قد ينكشف الغطاء فإذا الأمر على خلاف ما ظن أو اعتقد. وقد صرح بأهل هذا المذهب، دون تفاصيله، القاضي عياض ، والقاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي والشيخ محمد أبو زهرة .

وظاهر الحديث أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كغيره من الناس في ذلك، بل فيه التصريح بأن أصحاب الخبرة في صنائعهم وتجاراتهم وزراعاتهم قد يكونون أعلم منه بدقائقها، إلا أن القاضي عياضاً أوجب أن يكون الخطأ في ذلك نادراً لا كثيرا يؤذن بالبلة والغفلة. ويحتج لهذا المذهب بأدلة، منها: أولا: حديث تأبير النخل. ففي صحيح مسلم عن رافع بن خديج ، أنه قال ” قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة، فإذا هم يأبرون النخل- يقول: يلقحون النخل- فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا. فتركوه، فنفضت، فذكروا ذلك له، فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر “.

وفي رواية طلحة، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” ما أظن ذلك يغني شيئا ” فأخبروا بذلك، فتركوه. فأخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك. فقال: ” إن كان ينفعهم ذلك فيصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله “.

وفي رواية عائشة وأنس: ” أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مر بقوم يلقحون، فقال: لو لم يفعلوا لصلح. قال: فخرج شيصاً ، فمر بهم فقالوا : ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال: ” أنتم أعلم بدنياكم ” . وشبيه به حديث ابن عباس في قصة الخرص ، وفيه: فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” إنما أنا بشر، فما حدثتكم عن الله فهو حق ، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطيء وأصيب “.
وقد رد الاستدلال بهذا الحديث بأن المراد: أنتم أعلم بدنياكم من أمر دينكم . ويكون توبيخا لهم . وسياق الحديث على اختلاف رواياته يأبى هذا التأول ويبطله.

ثائيا: حديث أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي لما قال: ” إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلى. ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار “. وفي رواية الزهري للحديث المذكور ” إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم. فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق ، فأقضي له بذلك “.

رأينا في ذلك: نختار المذهب القائل بأن أقوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأفعاله الدنيوية ليست تشريعا، وذلك لأجل الأدلة الآتية:

ا – قوله تعالى: ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى ) وقوله (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) وقد تكرر التأكيد في الكتاب على بشرية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه لا يعلم الغيب وأنه ليحس ملكا، ومن المعلوم أنه لما نبأه الله عز وجل، لم يمنعه من تصرفاته البشرية كما يتصرف غيره من الناس على غالب الظنون والتقادير التي تخطيء وتصيب، ولا تعهد له بأن يمنعه من الخطأ في ذلك. وهذا بخلاف أمور الشريعة، فإن كلامه فيها لا يستقر فيه خطأ، كما هو ثابت في علم أصول الفقه.
فالأصل استمرار حاله في أمور الدنيا كما كان قبل النبوة ، لما لم يدل على انتقاله عن ذلك دليل. وقد أكدت السنة النبوية ما بينه القرآن من ذلك. كما يأتي.

2- قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بأمر دينكم فاقبلوه، وإذا أمرتكم بشيء من دنياكم فإنما أنا بشر ” وفي رواية: ” أنتم أعلم بدنياكم، وبهذا الحديث، برواياته المختلفة، يؤصل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصلا عظيما في الشريعة، ويبينه لنا، ويشعرنا بأن بعض أفراد الأمة قد يكونون أحيانا أعلم منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يتقنونه من أمور الدنيا، والمقصود أهل الخبرة في كل فن وصناعة، وأنه لا داعي شرعا لالتفاتهم إلى ما يصدر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك إلا كما يلتفتون إلى قول غيره من الناس.

3- ما ذكر ابن إسحق في سيرته في سياق غزوة بدر، قال: حدثت عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر، قال: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فنزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسوله الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لقد أشرت بالرأي.

4- ما ورد في الحديث أن نفرا دخلوا على زيد بن ثابت، فقالوا له: حدثنا أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له. فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرها الطعام ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ!؟ .

5- ما ورد عن هشام بن عروة، أن عروة بن الزبير كان يقول لعائشة ” يا أماه، لا أعجب من فهمك ، أقول: زوجة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبنت أبي بكر. ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس، أو من أعلم الناس. ولكن أعجب من علمك بالطب ، كيف هو ومن أين هو؟ ” قال: فضربت على منكبه، وقالت: ” أي عرية ! إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يسقم عند آخر عمره، أو في آخر عمره. فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فينعتون له الأنعات ، وكنت أعالجها له “. وممن صرح بهذه القاعدة بصفتها العامة من الأصوليين القدامى القاضي عبد الجبار. وصرح به حديثا الشيخ ولي الله الدهلوي ، والشيخ محمد أبو زهرة ، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ عبد الجليل عيسى ، والشيخ فتحي عثمان.

أما من حيث التفصيل فقد قال ابن خلدون: ” الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل (يعني طب البادية المبني على تجارب قاصرة) وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديا للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع. فقال: ” أنتم أعلم بأمور دنياكم “. قال: ” فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم النفع، وليست ذلك في الطب المزاجي”.

وقال القاضي عياض في الشفاء: (فصل) فأما أحواله في أمور الدنيا فنحن نسير بها على أسلوبنا المتقدم بالاعتقاد والقول والفعل. فأما العقد بها يعني اعتقادها، فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن، بخلاف أمور الشرع . ثم ذكر القاضي عياض حديث تأبير النخل، وحديث الخرص ، ثم قال: وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها، لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها.

ثم ذكر القاضي عياض حديث ابن إسحاق في قصة غزوة بدر، وما أشار به الحباب بن المنذر على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأنه قال: ” أشرت بالرأي ” وفعل ما قاله. وقد قال الله تعالى له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( وشاورهم في الأمر) ، وأراد مصالحة بعض عدوه على ثلث ثمار المدينة، فاستشار الأنصار، فلما أخبروه برأيهم رجع عنه. قال القاضي عياض: فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها يجوز عليه فيها ما ذكرناه، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجلها همه وشغل نفسه بها ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشحون القلب بمعرفة الربوبية ، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية.

ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة. انتهى كلام القاضي عياض. وقال شاه ولي الله الدهلوي: ” باب بيان أقسام علوم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: اعلم أن ما روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودون في كتب الحديث على قسمين: أحدهما ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فمنه علوم المعاد، وعجائب الملكوت، ومنه شرائع وضبط للعبادات والارتفاقات الخ.

والقسم الثاني: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر ” وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قصة تأبير النخل ” إني إنما ظننت ظنا ولا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لم أكذب على الله ”

وقول زيد بن ثابت حيث دخل عليه نفر، فقالوا له: حدثنا أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قال: كنت جاره. فكان إذا نزل عليه الوحي بعوث إلي ، فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟! وقال الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه ” تاريخ المذاهب الإسلامية ” في شأن حديث تأبير النخل ” الحديث يتعلق بالصناعات وفنون الزراعة، وتثمير الأشجار، فهل يتصور أن النبي يمكن أن يكون حجة وذا خبرة في فنون الزراعة والتجارة، وصناعة الزجاج والجلود، ونسج الأقطان والحرير، وغير ذلك مما يتعلق بالمهن المختلفة!؟ إن كانوا يتصورون ذلك، فقد خلطوا خلطا كبيرا، ولن يميزوا بين رسول جاء بشرع من السماء، وصانع ذي خبرة فنية، وتاجر عالم بالأسواق. إن الحديث وارد في مثل موضوعه، وهو تأبير النخل وغيره من الصناعات والزراعات ونحوها، فما كان الرسول مبعوثا لمثل هذا، والتشريع فوق هذا، وهو الذي جاء به النبي ” ا هـ كلام الشيخ أبي زهرة
والله أعلم

السابق
دواء أبيديكسول – Apidexol
التالي
دواء أبيديكس – Apidex

اترك تعليقاً