ديني

الايمان بقضاء الله وقدره خيره وشره

الايمان بالقدر خيره وشره

الايمان بالقدر خيره وشره

الإيمان بالقدر هو الركن الخامس من أركان الإيمان ، كما دل على ذلك حديث جبريل عليه السلام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان ، فقال : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى ) متفق عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( كل شيء بقدر حتى العجز والكَيْس ) رواه مسلم . والمراد بالعجز الكسل عن أداء الأعمال ، والكيس : النشاط والحذق في الأمور ، والمعنى أن العاجز قد قُدِّرَ عجزه ، والكيِّسُ قد قُدِّرَ كَيْسُه . وقال تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (القمر:49) .

ولما كان الإيمان بالقدر بهذه المنزلة من الدين ، كان جاحده ومنكره من الكافرين ، قال صلى الله عليه وسلم 🙁 لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني محمد رسول الله بعثي بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر ) رواه الترمذي وصححه الألباني .

ومعنى القدر شرعاً : هو تقدير الله عز وجل الأشياء في القدم ، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده ، وصفات مخصوصة ، وكتابته – سبحانه – لذلك ، ومشيئته له ، ووقوعها على حسب ما قدرها وخلقه لها .

قصص عن الايمان بالقدر خيره وشره

إن هذه الدنيا دار بلاء واختبار، وليست دار راحة وقرار، والمنغصات فيها كأمواج البحر المتلاطمة، ولا ينجو من ذلك إنسان، يقول تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4].

ولا تجد إنسانًا كامل السعادة، فالغني يؤرقه خوفه على ضياع ماله، والسلطان يخشي زوال ملكه، والفقير يشقى بفقره… إلخ.

وكثير من البشر لا يدرك قيمة ما حازه ويتطلع إلى ما يفتقده؛ لذلك تجد حياته بائسة لعدم رضاه وقناعته؛ فالغني -مثلاً- قد يحسد الفقير على راحة البال، وفي المقابل يحسد الفقيرُ الغنيَّ على رغد العيش.

وهذه الدنيا لا تهدأ فيها الصراعات بين بني البشر، فنجد الظالم والمظلوم، وقد تدور الأيام وتتبدل الأحوال فنجد مظلومَ اليوم ظالمًا الغد.

ولكن مَنْ صاحَبَتْهُ معية الله يكون يوم ضعفه ومظلوميته مع الله بالدعاء والاستغفار والصبر.. إلخ، ويوم قوَّته لا ينساق خلف نفسه المنتقمة الباطشة، ويتذكَّر أن العفو أقرب إلى التقوى، وقليل مَنْ يفعل ذلك..

والمصائب تنزل بالإنسان ليظهر جوهره ومعدنه؛ فمنهم من تزيده المصائب قربًا من الله، ومنهم من يجزع ويطيش عقله، ولا يهتدي إلى اللجوء لربه الذي بيده كشف الضر وتحويل المحن إلى منح.

وقد كان من أركان الإيمان الستة: “الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره”[1].

وهذه هي الدنيا يوم حلو ويوم مُرٌّ، فلا الحلاوة تبقى، ولا المرارة تدوم. قال أوس بن حارثة جدُّ الأنصار لبنيه حين حضرته الوفاة: “الدهر يومان: فيوم لك، ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصطبر، وكلاهما سينحسر”[2].

وهذا الركن أرى أننا نقرؤه ونعرفه؛ ولكن قلما مَنْ يعيشه: فهذا الركن ركن عملي وليس نظريًّا: ففيه الرضا بالقضاء والتسليم له، والثقة في موعود الله بالفرج، والصبر على أمر الله، وغيره من القيم التي تتجلى للإنسان في هذه الأحوال.

قال بعض الحكماء: رُبَّ محبوبٍ في مكروهٍ، ومكروهٍ في محبوبٍ، وكم مغبوطٍ في نعمة هي داؤهُ، ومرحوم في داء هو شفاؤه، وربَّ خيرٍ من شرٍّ ونفع من ضرٍّ[3].

وأنشد أمية بن أبي الصلت في معناه:

تجري الأمور على وفق القضاء وفي *** طيِّ الحوادث محبوب ومكروه
فــربمــــا سـرنـــي مــا بـــتُّ أحــذره *** وربما ساءني ما بتُّ أرجـــوه

إلا أن ضعف النفس البشرية تؤدي بصاحبها إلى أن لا يرضى بقضاء الله، فيظهر الاعتراض على هذا القضاء، أو يحمله الجزع وعدم الصبر على قول ما لا يرضى الله عنه..

لذلك حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم الذين يجزعون عند حلول المصائب بهم، ولا سيما عند مصيبة الموت؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ”[4].

وهذا كثيرًا ما يقع من النساء؛ فيُكثرن من الصياح والعويل، والندب والنياحة، وإظهار الجزع والتبرم بتقطيع الثياب، وخمش الوجوه، “قال الحسن في قوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12]؛ أي: لا ينحن، ولا يشققن، ولا يخمشن، ولا ينشرن شعرًا، ولا يدعون ويلاً.

وقد نسخ الله ذلك بشريعة الإسلام، وأمر بالاقتصاد في الحزن والفرح، وترك الغلو في ذلك، وحَضَّ على الصبر عند المصائب، واحتساب أجرها على الله، وتفويض الأمور كلها إليه”[5].

وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر، فهو المركب الذي لا يغرق أبدًا، مَنْ ركبه فقد نجا؛ فقد مرَّ بامرأة تبكي عند قبر فقال: “اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى”.

قالت: إليك عني، فإنك لم تُصب بمصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم. فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك.

فقال: “إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى”[6].

فالمصائب مهما عظمت فإن أثرها لا يلبث أن يضعف بمرور الوقت، وقد ينمحي أثرها بالكلية؛ لذلك قال وهب بن منبه: “ما من شيء إلا يبدو صغيرًا ثم يكبر، إلا المصيبة فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر”[7].
لذلك فالإنسان لا يخلو من حالين بينه وبين ربه؛ فشكر المنعم حال النعمة، والصبر على أمره وقضائه حال الضراء.

وقد قيل: المحنة إذا تُلقيت بالرضا والصبر كانت نعمة دائمة، والنعمة إذا خلت من الرضا والشكر كانت نقمة قائمة[8].

فوجب التنبيه على العبد أن لا يغفل “في أوقات النعمة والرخاء عن الاعتداد بالشكر، فلا يُقابل فضل المنعم -تعالى شأنه- بالكفران والنكر، كما أنه إذا ابتلي بمصيبة فلا يُقابلها بالسخط والضجر؛ بل يكون صابرًا عند البلاء، شاكرًا وقت النعماء”[9].

لذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: “الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ، وَالْيَقِينُ الْإِيمَانُ كُلُّهُ”[10].

وقال أبو الدرداء: ذِرْوَةُ الْإِيمَانِ الصَّبْرُ لِلْحُكْمِ، وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ[11].

فوائد الايمان بالقدر خيره وشره

أولًا: الرضا واليقين بالعوض، قَالَ تَعَالَى: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ﴾ [التغابن: 11]. قال ابن كثير في تفسيرها: “أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله، وقدره فصبر، واحتسب، واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدًى في قلبه، ويقينًا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أُخذ منه، أو خيرًا منه، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: يَهْدِ قَلْبَهُ لِلْيَقِينِ فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ المُصِيبَةُ فَيَعلَمُ أَنَّهَا مِن عِندِ اللهِ فَيَرضَى وَيُسَلِّمُ، وفي الحديث المخرج في صحيح مسلم مِن حَدِيثِ صُهَيْبٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ”[4]، قَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيرٍ: ﴿ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ – يَعنِي يَسْتَرْجِعُ – يَقُولُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ”[5].

روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم”[6].

ثانيًا: انشراح الصدر، وسعادة القلب، وطمأنينة النفس، وراحة البال، قال عمر بن عبد العزيز: أصبحت وَمَا لِيَ سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر، قَالَ تَعَالَى: ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون ﴾ [التوبة: 51].

ثالثًا: الحصول على الأجر الكبير، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون ﴾ [البقرة: 155-157]، قال أمير المؤمنين: نعم العدلان، ونعمت العلاوة؛ ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ فهذان العدلان، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون ﴾ هذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين وهي زيادة في الحمل، فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا.

رابعًا: غنى النفس، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: “وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ”[7].

خامسًا: عدم الخوف من ضرر البشر، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: “إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ”[8].

سادسًا: الشجاعة والإقدام، فالذي يؤمن بالقضاء والقدر ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأجل مقدر لا يزيد فيه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، لا يهاب الموت، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً ﴾ [آل عمران: 145]. وقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون ﴾ [الأعراف: 34]. قال الشافعي:

وَمَنْ نَزَلَتَ بِسَاحَتِهِ المنَايَا
فَلا أَرضُ تَقِيهِ وَلا سَماءُ

سابعًا: عدم الندم على ما فات، والتحسر على الماضي، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: “الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ”[9].

ثامنًا: أن الخيرة فيما اختاره الله، فقد يقدر على المؤمن مصيبة فيحزن ولا يدري كم من المصالح العظيمة التي تحصل له بسببها وكم صُرف عنه من شرور، والعكس كذلك، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾ [البقرة: 216].

الايمان بالقدر خيره وشره اسلام ويب

فالجمع بينهما يسير وواضح, وهو أن الإيمان بالقدر خيره وشره ركن من أركان الإيمان، وهو الإقرار بأن ما يقع من شيء في الكون فهو من تقدير الله وخلقه سواء كان خيراً أو شراً. وكل قضاء الله خير لأنه عن حكمة بالغة وتقدير عليم, وإنما يكون ما هو شر في ظاهره فيما يعرض على العبد في حالة دون حالة, فربما رأى البعض أن الموت أو المرض شر له, والبعض يرى أنه خير؛ لأنه تكفير للذنوب أو مفارقة للدنيا وتعبها, وأما بخصوص حديث : عجبا لأمر المؤمن … فإنما كان كل أمر المؤمن خيراً له لا من جهة أنه لا شر فيه؛ بل من جهة أنه كله له فيه أجر وقربة إلى الله، ومثوبة للعبد على حسن تعامله مع قدر الله وقضائه, فهو يتقرب في حالة السراء بالشكر، وفي حالة الضراء بالصبر, فيكسب في كلا حالتيه الأجر والمثوبة من الله, لصبره وشكره. مع أنه في الحديث: سماها ضراء أي فيها ضر وبلاء وربما رأى العبد أنها شر, لكن بصبره ورضاه عن الله تعالى وقدره يتحول ذلك إلى نعمة عليه

تعريف القدر

  • طمأنينة القلب؛ فالمسلم حين يسلم أموره لله تهدأ نفسه، ويطمئن قلبه، فلا يتعرّف لكلّ ما يصيب نفسه بالأذى، ويصل إلى ما قال فيه الله تعالى: (لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)،[١٠] فلا يفرح بالسرّاء ولا يجزع بالضراء، وإن أصابته مصيبةٌ صبر، وإن أصابه الفرح شكر، وكلّ ذلك خيرٌ له.
  • عدم اليأس والقنوط، حيث إنّ التسليم بالقضاء والقدر لا يكون إلّا بعد أن يبذل الإنسان كلّ ما يملك من الجهد في سبيل الوصول إلى الخير، فالمسلم يستعين بالله في كلّ أموره ثمّ بعد ذلك ما يقدره الله له هو الخير.
  • حصول اليقين في القلب؛ فيتأكّد المسلم أنّ كلّ ما يصيبه لن يصيبه إلّا بإرادة الله عزّ وجلّ، وذلك كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (واعلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمَعَتْ على أنْ يَنْفَعوكَ بشَيءٍ، لم يَنْفَعوكَ إلَّا بشَيءٍ قد كتبَهُ اللهُ لك، وإنِ اجْتمعوا على أنْ يَضُروكَ بشَيءٍ، لم يَضُروكَ إلَّا بشَيءٍ قد كتبَهُ اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ، وجَفَّتِ الصُّحُفُ).
  • الأخذ بالأسباب؛ فليس الإيمان بالقدر مدعاةً للخمول والكسل والقعود عن العمل بحجّة أنّ الله تعالى قد قدّر وكتب كلّ شيءٍ، فإن الله -عزّ وجلّ- في سابق علمه ربط النتائج بالأسباب الموصلة إليها، فإنّ التوكّل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب، وكان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يلبس الدرع في الحرب، وحفر الخندق في غزوة الخندق أخذاً بالأسباب، وأمر بالتداوي عند المرض والحذر من الاقتراب منه، ويظهر ذلك جلياً حين أخبر عمر في مسألة مرض الطاعون، فقال: قال أبو عبيدة بن الجرّاح: (أفِراراً من قدَرِ اللهِ؟ فقال عُمَرُ: لو غيرُك قالها يا أبا عُبَيدَةَ؟ نعمْ نَفِرُّ من قدَرِ اللهِ إلى قدَرِ اللهِ).
  • إخراج الطاقات الكامنة في الإنسان؛ فحينما آمن الإنسان بالقدر راح يعمّر الأرض ويحقّق خلافة الله له فيها، فبدأ بفتح البلاد ونشر الدين الإسلامي فيها وتحقيق العدل، والتعرّف إلى خيرات الله في البلاد واستغلال هذه الخيرات بكلّ ما هو نافعٌ ومفيدٌ.

القضاء والقدر

الفرق بين القضاء والقدر كثيراً ما يتبادر للأسماع عند المصائب والكوارث، وربّما الأحزان ونادراً عن الأفراح، مصطلح القضاء والقدر، فلماذا يُقرَن القضاء والقدر غالباً بالشّر؟ وهل هناك فرقٌ جليٌّ بين القدر والقضاء؟ وكيف يكون الإيمان بالقضاء والقدر؟ علاقة القضاء والقدر بالشَّر ينبغي على المُؤمن أن يُدرك يقيناً أنّ القضاء والقدر لا علاقة له بالشرّ والكوارث؛ فقضاء الله تعالى وقدره لا يحملان الشرّ للإنسان حتّى وإن أصابه الضّرر من قضاء الله وقدره؛ لأنّ كل ضررٍ ربما يلحق بالمرء من مُتعلّقات القضاء والقدر لا يجوز أن يُسمّى شرّاً إلا على سبيل المَجاز في الاستعمال اللغويّ فحسب، حيث قضاء الله كلَّه خير، فالله سبحانه وتعالى بحكمته وقضاءه وتقديره وعلمه الأزليّ يضع كلّ شيءٍ في موضعه المُناسب، ويكون ذلك من قبيل الحكمة الإلهيّة، عَلِم ذلك من عَلِمَه، وجَهِل من جَهِله.

الفرق بين القضاء والقدر اختلفت أقوال العلماء في الفرق بين القضاء والقدر وكثرت الآراء في ذلك؛ فقد قال بعضهم بأنّه لا يوجد فرق بين الاثنين؛ إنّما هما لفظتان لمُصطلحٍ واحد، وأنّ معنى القضاء موجودٌ في معنى القدر، أمّا الفريق الآخر فقد قالوا بأنّه يوجد اختلافٌ في المعنين، وفيما يأتي بيانٌ للأقوال والأدلة:

ذهب فريقٌ من العلماء، منهم الرّاغب الأصفهانيّ، إلى أنَّ القضاء أخصُّ من القدر؛ لأنّ القضاء هو الفصل بين التّقدير، فالقدر هو التّقدير، والقضاء هو الفصل بأمرٍ مُعيّن ثم القطع فيه، وقد ذكر بعض العلماء أنّ القدر بمنزلة الشّيء المُعَدِّ للوزن، أمّا القضاء فهو بمنزلة الوزن نفسه، ومن ذلك ما قاله أبو عبيدة عامر بن الجراح لعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- لمّا أراد عمر الفرار من الطّاعون بالشّام: (أتفرُّ من القضاء؟ قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله)؛[١٠] وفي ذلك إشارةٌ وتنبيهٌ إلى أنّ القدر ما لم يكن قضاءً فمن المرجوّ أن يدفعه الله، أمّا إذا قضى الله فلا دافع لقضائه، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا).

ذهب الفريق الثّاني إلى أنّ القضاء والقدر بمنزلةٍ واحدة، ويقول الخطابيّ في الفرق بينهما: (جماع القول في باب القضاء والقدر أنّهما مُتلاصقان لا انفكاك لأحدهما عن الآخر؛ لأن كل واحدٍ منهما بمنزلة الأساس وأحدهما بمنزلة البناء، فمن أراد الفصل بينهما فقد سعى إلى هدم البناء ونقضه)، ويرى الجرجانيّ أنّ القدر عبارةٌ عن خروج المُمكنات من العدم إلى الوجود واحداً بعد واحد مُطابقاً للقضاء، وأنّ القضاء يكون في الأزل، والقدر يكون فيما لا يزال، والفرق بين القدر والقضاء هو أنّ القضاء وجود جميع الأشياء والأعمال والأقوال في اللّوح المحفوظ مُجتمعةً، أمّا القدر فهو وجودها مُتفرّقةً في الوقائع والحوادث بعد حصول مُسبّباتها. ذكر فريقٌ من العلماء، كما ينقل ابن حجر العسقلانيّ، أنّ القضاء هو الحكم الكُليّ الإجماليّ في الأزل، وأنّ القدر هو جُزئيات ذلك الحكم وتفاصيله. يرى بعض العلماء أنّ القدر هو تقدير الشّيء قبل قضائه، وأنّ القضاء هو الفراغ من الشّيء وإتمامه وفق ما قُدِّر له وبه. وقد استشهد أصحاب هذا الرّأي للتّفريق بين القضاء والقدر بأنّ شبّهوا القدر بالثّوب؛ فالقدر يكون بمنزلة تقدير الخيّاط للثّوب، فهو قبل أن ينسجه ويُفصّله على مقاس صاحبه فإنّه يُقدّره، فإمّا أن يزيد أو أن ينقص، فإذا فصّله فقد قضاه وفرغ من تقديره وفاته وقت التّقدير، وبذلك يكون القدر أسبق من القضاء. وخلاصة القول أنّ الأقوال الواردة في الفرق بين القضاء والقدر كمسألتين مُترابطتين كثيرة، وليس في القرآن الكريم أو السُنّة النبويّة دليلٌ واضح يُشير إلى الفرق بينهما، إنّما هي اجتهاداتٌ تقوى وتضعف بالنّص، ولكل فريقٍ رأيه ودليله، وليس ذلك موضع تأثير في مسألة القضاء والقدر والإيمان بها.

 

امثلة على القضاء والقدر

قال قائلٌ: كيف نجمع بين القضاء والقدر وعقيدة القضاء والقدر، وبين حديث النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم الصَّحيح: إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذُكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذُكر القدر فأمسكوا [رواه الطبراني1428، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 34]. وكذلك ما ورد في الحديث الآخر: أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر حتى احمر وجهه كأنما فُقأ في وجنتيه حب الرمان، وغضب غضباً شديداً، فقال:أبهذا أُمرتم أم بهذا أُرسلت إليكم؟ إنما أهلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر أو أُهلك حين تنازعوا في هذا الأمر عزمت عليكم أن لا تنازعوا فيه [رواه الترمذي: 2133، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح: 98].
والحديث قد حسَّنه بعض أهل العلم، ونريد أن نعرف ما موقع هذين الحديثين إذاً في القضية؟
إنَّ هناك أحاديث تكلَّمت في تفاصيل القضاء والقدر، وأحاديث بظاهرها تنهى عن الخوض فيه، فلابد أن نوجِّهها توجيهاً فنقول:
أولاً: إنَّ الأحاديث التي وردت في النَّهي عن الخوض فيه إنَّما المقصود فيها الخوض بلا علم ولا دليل بل خوضٌ بالباطل.
ثانياً: أن يخوض الإنسان معتمداً فيه على العقل البشري القاصر، والعقل البشري القاصر لا يمكن أن يستقِل بمعرفة تفاصيل العقيدة كما قلنا، أو المقصود أن يخوض الإنسان بالقضاء والقدر مع عدم التَّسليم والإذعان لقضاء الله وقدره؛ لأنَّه غيب، والغيب مبنيٌّ على التَّسليم، فإذا خاض الإنسان فيه بغير تسليم يدخل في النَّهي، وكذلك يمكن أن نقول إنَّ النَّهي عن البحث في الجانب الخفي من القدر، والقدر سرُّ الله في خلقه لم يُطلِع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، لم يطَّلِع أحد على اللوح المحفوظ ولم يره كله، ولا يعرف ما فيه إلا الله عزَّ وجلَّ، فهذا سرُّ الله، فلو أراد إنسان أن يخوض في الجانب الخفي من القدر؛ فينطبِق عليه الحديث في النَّهي، وكذلك أيضاً يمكن أن نُوجِّه الحديث لمن أراد أن يسأل أسئلةً اعتراضيةً، ويسأل متعنداً متعنتاً، كما يقول: لماذا هدى الله فلاناً وأضلَّ فلاناً؟ ولماذا قبض الله فلاناً، فهذا الرجل كبيرٌ ومازال حياً، وهذاك الشَّاب الصَّغير لماذا مات؟ فهذا الخوض فيه أيضاً يدخل في النَّهي، أمَّا من سأل مستفهماً عن الحكمة، مثلاً قال قائل: ماهي الحكمة من خلق إبليس؟ إذا كان يسأل مستفهمناً للتَّعلم فهذا غير إذا سأل متعنتاً للاعتراض، وهذا داخل في النَّهي.
ثم الحديث واضح في قضية التَّنازع، فالتَّنازع في القدر يؤدي إلى الاختلاف والافتراق، ولا يدخل في التَّنازع المذموم منازعةُ الفرق الضَّالة ومجادلتهم بالحقِّ؛ لأنَّنا قد أُمرنا بها.
فهذا إذاً يُحمل عليه سبب غضب النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا بالجملة أنَّ الكلام في القدر والبحث فيه بالمنهج العلمي الصَّحيح غير محرم ولا منهي عنه، وإنَّما الذي نهى عنه النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم الخوض بالباطل والتَّنازع فيه.

القضاء والقدر في القرآن

وردت العديد من الآيات القرآنية التي تُثبت القدر، نذكر منها:

  • * قوله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر:49)، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء بمقدار قدّره وقضاه، ويتضمّن ذلك –وفق الملاحظ من سياق الآية- وعيداً على المجرمين المكذبين بالقدر والكافرين به.
  • * قوله تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} (تبارك:1)، ومعناه أن كل شيء دون الله سبحانه وتعالى فهو مخلوقٌ مربوب، محتاجٌ إلى مليكٍ وإلهٍ يسخّر أموره ويُقدّر له أقداره، وأن كل شيء تحت قهره سبحانه وتسخيره.
  • * قوله تعالى: { سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً} (الأحزاب:38)، ومعناه كما قال ابن كثير: “وكان أمره الذي يقدره كائنا لا محالة، وواقعا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن”.
  • * قوله تعالى: { فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى} (طه:40)، ومعناه أن مجيء موسى عليه السلام في هذا الميقات المحدّد والمكان المعدّ وفق إرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته، ليتمّ ما قدّره سبحانه وأراده من إرساله إلى فرعون رسولاً.
  • * قوله تعالى: { فجعلناه في قرار مكين*إلى قدر معلوم*فقدرنا فنعم القادرون*ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات:21-23)، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى قد هيّأ الرحم لتلك النطفة أن تبقى فيها ثم تنقل من حال إلى حال، ومن صفة إلى صفة؛ في مدّة معلومة وأجلٍ محدّد قدّره الخالق سبحانه، ومن اللطيف الإشارة إلى قراءة هناك قراءة “فقدّرنا” بالتشديد، وهي قراءةٌ متواترة قرأ بها أبو جعفر ونافع والكسائي، وغيرهم بالتخفيف .
  • * قوله تعالى: { من نطفة خلقه فقدره} (عبس:19)، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في بطن أمّه أطواراً: نطفة ثم علقة ثم مضغةً، إلى آخر تلك المراحل، ثم قدّر له تصوير خلقته وهيئته، وقدّر أجله ورزقه وعمله، وشقاوته أو سعادته.
  • هذه أبرز الآيات التي تنصّ على هذه المرتبة، وهناك آيات تذكر هذا الركن بالمعنى مثل قوله تعالى: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير} (الحديد:22)، وقوله سبحانه: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} (النساء:87).
السابق
احكام العيد في الفقه الاسلامي
التالي
الهمز واللمز في الاسلام

اترك تعليقاً